ركض إليّ مذعورًا، وهو
يصرخ بأن "الأمير" محاصر من قبل ثعبان أسود داخل مراحيض المدرسة. كنت
حينها داخل فصل دراسي أدرس التلاميذ، لم أستوعب تفاصيل حديث هذا التلميذ المذعور
الذي أرسلته المعلمة بشكل دقيق..
كان كل شيء يحدث بسرعة
لا تترك مجالاً للتفكير. كأن عقلي انسحب إلى الخلف تاركًا المجال لجسدي يتحرك وحده.
شعرت بدفعة قوية تنطلق من أعماقي، كأن شيئًا خفيًا بداخلي يُملي علي ما أفعل. لم أكن
أفكر، فقط أتصرف. غريزتي تولت القيادة، وكأنها تعرف الطريق الذي يقودني إليه الآن.
كنت أهبط الدرج
بسرعة، كان قلبي يخفق بقوة، وكأن شيئًا ما يطاردني. لم أعد أميز عدد الدرجات التي
أمر فوقها. قفزت ثلاث درجات دفعة واحدة، بالكاد تلامس قدمي الدرج الموالي قبل أن
أندفع نحو الأسفل مرة أخرى. شعرت وكأن الريح تسابقني، وكل خطوة أخطوها تزيد من
تسارع دقات قلبي، وكأنني أخشى أن أتأخر عما ينتظرني هناك.
لم أشعر سوى بحركة قدميّ.
وكأنهما انفصلتا عني، تتقدمان دون أن أعي كيف أو لماذا. كان المكان يناديني، لم يكن
هناك إلا أنا والمسافة الفاصلة بين الفصل والمرحاض.
عندما وصلت... تلميذ
صغير واقفًا خائفًا داخل المرحاض. كان المكان هادئًا بشكل مريب، طلبت منه أن يبتعد
بهدوء، واقتربت بحذر. توقفت للحظة أمام المرحاض، شعرت بشيء غريب يراقبني. مددت نظري
بحذر، وهناك، خلف "باب المرحاض"، كان يختبئ ويلتف بجسده كظلٍ ثقيل، عيناه
اللامعتان كحبات فحم مشتعلة تترصدان حركتي. قلبه الأسود بدا وكأنه ينبض شرًا، تحرك
ببطء وكأنه يستعد للهجوم. سكنت أطرافي للحظة.
دخلت متسللا حيث يوجد
الطفل دون تردد، الهواء هنا مشبع برائحة الرطوبة التي لا تخطئها الأنوف، مددت يدي بسرعة،
انتشلتُه من براثن الخطر. ضممتُه إليّ كمن يحمي قطعة من روحه، شعرت بثقله بين يدي،
ليس جسدًا فقط، بل خوفًا وارتباكًا وتعلقًا بالحياة. كان تحت حمايتي، ولن أترك شيئًا
يقترب منه أو يهدده ما دام تحت جناحي.
ناولتني شابة تقطن بالقرب
عصا المكنسة، وفي حركة واحدة قوية، هويت بها على رأسه. استمر في التلوّي قليلاً قبل
أن يُسلم نفسه تمامًا لما لا مفر منه، كان لا يزال في عينيه بريق صغير، كأن روحه تتشبث
بآخر خيط من الأمل.
قررت أن أنهي الأمر...
حملته بحذر، متجاهلًا أي شعور بالتردد أو الشفقة، وسلكت الطريق المؤدي إلى السور الجنوبي
للمدرسة. هناك، حيث تمتد أشجار الكاليبتوس بكثافتها وظلالها، ألقيته بعيدًا، كان المكان
المثالي لإخفاء ما لا يجب أن يراه أحد. شعرت بالراحة كأنني أزيح عن كاهلي عبئًا ثقيلًا
حيث تمكنت من حماية التلاميذ وجعل المكان آمنًا مرة أخرى. إنه الثعبان الرابع الذي
أجد نفسي مضطرًا للتعامل معه داخل أسوار هذه المدرسة منذ أن بدأت مسيرتي هنا. كأن هذه
الزواحف اختارتني خصيصًا لتكون جزءًا من يومياتي، أو ربما هي لعنة هذا المكان، تُرسل
رسائلها الملتوية عبر ظلال الثعابين، وكأنها تحاول أن تقول لي: "ارحل". شعرت
وكأن الأرض نفسها تنبض بعداءٍ خفي، تسعى لتجعل وجودي هنا مستحيلًا.
المساء جلب معه مفاجأة
غريبة... بينما كنت جالسا على كرسي مكتبي الخشبي أدون ما يمكن تدوينه في أفق التدوين
الشامل، سمعت ضحكات ممزوجة بصراخ الأطفال في الشارع المحاذي للمدرسة، كانت أصواتهم
تتداخل وتملأ الفضاء ، بعضهم يضحك، والبعض الآخر يصرخ بدافع اللعب أو الفوضى الطفولية
التي تسرق انتباهك وتجذبك إلى عوالمهم البسيطة..
خرجت لأرى ما يحدث، مشبعًا
فضولي الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من شخصيتي، فضولٌ تعلمته هنا مع مرور الوقت وأصبح يزداد
حدّة مع كل يوم. كان لدي شعور غريب بأنني يجب أن أعرف كل شيء، مهما كانت تفاصيله صغيرة
أو تافهة. لقد أصبح فضولي الآن يقترب من الوقاحة، لدرجة أنني أتجاوز الحدود أحيانًا
دون أن أدرك، وكأنني أبحث عن شيء غامض في كل زاوية، لا يهم إن كانت هناك مساحة للآخرين
أو لا.
صُدمت حين وجدتهم يلعبون
بجثة الثعبان الأسود الذي قمت باغتياله زوالا بعد أن احتجز الأمير داخل مراحيض المدرسة،
أراه مقطوع الرأس، يلفونه حول أعناقهم وكأنه مجرد لعبة، دون أدنى وعي لما يفعلون. كانت
عيونهم تلمع بالحماس والضحك، بينما كان الثعبان المشوه يتدلى كأنه دمية بلا حياة. كانوا
يتعاملون مع ما تبقى من الثعبان باعتبارهم "عيساوة"، سمعت أحدهم يقول
"أنا العيساوي يجرح ويداوي، ويروض لفاعي"... قلبي كان يعجز عن فهم كيف أصبح
هذا جزءًا من عالم هذا الجيل. صرخت فيهم أن يبتعدوا على الفور، أخذت الثعبان مجددًا،
هذه المرة بنية حاسمة؛ لم أعد أحتمل أن يبقى جسده هنا، ملوثًا بضحكاتهم البريئة التي
لا تدرك خطورة ما حدث. حملته بحذر، وكأنني أتعامل مع شيء مقدس يجب دفنه بعيدًا عن الأنظار.
مشيت بسرعة نحو المكان الذي قررت أن يكون مستقره الأخير، حيث لا يراه أحد.
كان دفنه بالنسبة لي
أكثر من مجرد نهاية لجثة؛ كان محاولة لإغلاق فصل مقلق.
عدت إلى المنزل ذلك اليوم
وأنا غارق في تفكير عميق، تساؤلات لا تكف عن التسلل إلى عقلي. من يمكنه أن يقطع رأس
ثعبان؟ وأين تركوه؟ كانت الأفكار تدور في رأسي بلا توقف، وكأنني عجزت عن فهم سر هذا
التصرف الغريب.
في اليوم التالي، قررت
أن أسأل أحدهم عن الأمر، فكان الجواب أكثر غرابة مما توقعت. أخبرني أن سيدة خمسينية
هي من قامت بتقطيع رأس الثعبان..
وماذا بعد؟
لفّته بعناية في منديل أبيض.واحتفظت
به.
لماذا احتفظت به؟؟
لكي تجففه
وتعلقه بعقدها، معتقدة أن ذلك سيطرد التعاسة عن حياتها ويجلب لها الحظ الجيد.
كانت تلك القصة تخلط بين الخرافة والواقع، وما
زالت تثير في نفسي شعورًا بالغموض والدهشة.
يوميات معلم بقلم حفيظ مينو الثلاثاء
19 مارس 2024 الساعة 14:07